فصل: تفسير الآيات رقم (1- 30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 30‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ لما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي أتاه جبريل، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلأليء، ففزع ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق دخل على خديجة، ودعا بماء، فصبه عليه، وقال‏:‏ «دثروني دثروني»، فدثروه بقطيفة، فقال‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ومعنى ‏{‏يأَيُّهَا المدثر‏}‏‏:‏ يا أيها الذي قد تدثر بثيابه، أي‏:‏ تغشى بها، وأصله المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما‏.‏ وقد قرأ الجمهور بالإدغام، وقرأ أبي‏:‏ ‏"‏ المتدثر ‏"‏ على الأصل، والدثار‏:‏ هو ما يلبس فوق الشعار، والشعار‏:‏ هو الذي يلي الجسد، وقال عكرمة‏:‏ المعنى‏:‏ يا أيها المدثر بالنبوّة وأثقالها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً إذ ذاك ‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ أي‏:‏ انهض فخوّف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا، أو قم من مضجعك، أو قم قيام عزم وتصميم‏.‏ وقيل‏:‏ الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوّته‏.‏ وقيل‏:‏ إعلامهم بالتوحيد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى قم فصلّ، وأمر بالصلاة ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبّرْ‏}‏ أي‏:‏ واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار، وأعظم من أن يكون له صاحبة أو ولد‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد والأصنام، ولا يتخذ ولياً غيره ولا يعبد سواه، ولا يرى لغيره فعلاً إلاّ له ولا نعمة إلاّ منه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إن الفاء في‏:‏ ‏{‏فكبر‏}‏ دخلت على معنى الجزاء، كما دخلت في‏:‏ ‏{‏فأنذر‏}‏‏.‏ وقال ابن جني‏:‏ هو كقولك‏:‏ زيداً فاضرب أي‏:‏ زيداً اضرب، فالفاء زائدة‏.‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ‏}‏ المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه، وحفظها عن النجاسات، وإزالة ما وقع فيها منها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالثياب العمل‏.‏ وقيل‏:‏ القلب‏.‏ وقيل‏:‏ النفس‏.‏ وقيل‏:‏ الجسم‏.‏ وقيل‏:‏ الأهل‏.‏ وقيل‏:‏ الدين‏.‏ وقيل‏:‏ الأخلاق‏.‏ قال مجاهد، وابن زيد، وأبو رزين، أي‏:‏ عملك فأصلح‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نفسك فطهّر من الذنب، والثياب عبارة عن النفس‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ قلبك فطهّر، ومن هذا قول امرئ القيس‏:‏

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل *** وقال عكرمة‏:‏ المعنى البسها على غير غدر وغير فجرة‏.‏ وقال‏:‏ أما سمعت قول الشاعر‏:‏

وإني بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنع

والشاعر هو غيلان بن سلمة الثقفي، ومن إطلاق الثياب على النفس قول عنترة‏:‏

فشككت بالرمح الطويل ثيابه *** ليس الكريم على القنا بمحرم

وقول الآخر‏:‏

ثياب بني عوف طهارى نقية *** وقال الحسن، والقرظي‏:‏ إن المعنى، وأخلاقك فطهّر؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه، ومنه قول الشاعر‏:‏

ويحيى لا يلام بسوء خلق *** ويحيى طاهر الأثواب حر

وقال الزجاج‏:‏ المعنى، وثيابك فقصر؛ لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجرّ على الأرض، وبه قال طاوس، والأوّل أولى؛ لأنه المعنى الحقيقي‏.‏ وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدلّ على أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل‏:‏ أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف، وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة‏.‏ ‏{‏والرجز فاهجر‏}‏ الرجز‏:‏ معناه في اللغة‏:‏ العذاب، وفيه لغتان‏:‏ كسر الراء وضمها، وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزاً؛ لأنها سبب الرجز‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الرجز‏}‏ بكسر الراء‏.‏ وقرأ الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وحفص، وابن محيصن بضمها‏.‏ وقال مجاهد، وعكرمة‏:‏ الرجز‏:‏ الأوثان، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ وبه قال ابن زيد‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ الرجز المأثم، والهجر الترك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الرجز إساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند البيت‏.‏ وقال أبو العالية، والربيع، والكسائي‏:‏ الرجز بالضم الوثن، وبالكسر العذاب‏.‏ وقال السديّ‏:‏ الرجز بضم الراء الوعيد، والأوّل أولى ‏{‏وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا تمنن‏}‏ بفك الإدغام، وقرأ الحسن، وأبو اليمان، والأشهب العقيلي بالإدغام، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تستكثر‏}‏ بالرفع على أنه حال، أي‏:‏ ولا تمنن حال كونك مستكثراً‏.‏ وقيل‏:‏ على حذف أن، والأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما حذفت رفع‏.‏ قال الكسائي‏:‏ فإذا حذف أن رفع الفعل‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش‏:‏ «تستكثر» بالنصب على تقدير أن، وبقاء عملها، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود‏:‏ «ولا تمنن أن تستكثر» بزيادة أن‏.‏ وقرأ الحسن أيضاً، وابن أبي عبلة‏:‏ «تستكثر» بالجزم على أنه بدل من تمنن، كما في قوله‏:‏ ‏{‏يَلْقَ أَثَاماً * يضاعف لَهُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68، 69‏]‏، وقول الشاعر‏:‏

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا

أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف، كما في قول امرئ القيس‏:‏

فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل

بتسكين أشرب‏.‏ وقد اعترض على هذه القراءة؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏تستكثر‏}‏ لا يصح أن يكون بدلاً من تمنن؛ لأن المنّ غير الاستكثار، ولا يصح أن يكون جواباً للنهي‏.‏

واختلف السلف في معنى الآية‏.‏ فقيل المعنى‏:‏ لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوّة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير‏.‏ وقيل‏:‏ لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها، قاله عكرمة، وقتادة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ هذا حرّمه الله على رسوله؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق، وأباحه لأمته‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولك حبل متين‏:‏ إذا كان ضعيفاً‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ لا تستكثر عملاً فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلاً إلى عبادته‏.‏ وقيل‏:‏ لا تمنن بالنبوّة، والقرآن على الناس، فتأخذ منهم أجراً تستكثره‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ لا تعط مالك مصانعة‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ إذا أعطيت عطية فأعطها لربك‏.‏

‏{‏وَلِرَبّكَ فاصبر‏}‏ أي‏:‏ لوجه ربك، فاصبر على طاعته وفرائضه، والمعنى‏:‏ لأجل ربك وثوابه‏.‏ وقال مقاتل، ومجاهد‏:‏ اصبر على الأذى والتكذيب‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ حملت أمراً عظيماً، فحاربتك العرب والعجم، فاصبر عليه لله‏.‏ وقيل‏:‏ اصبر تحت موارد القضاء لله‏.‏ وقيل‏:‏ فاصبر على البلوى‏.‏ وقيل‏:‏ على الأوامر والنواهي‏.‏ ‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور‏}‏ الناقور‏:‏ فاعول من النقر، كأنه من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب الصوت، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

أخفضه بالنقر لما علوته *** ويقولون‏:‏ نقر باسم الرجل‏:‏ إذا دعاه، والمراد هنا النفخ في الصور، والمراد‏:‏ النفخة الثانية‏.‏ وقيل‏:‏ الأولى، وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة الأنعام وسورة النحل، والفاء للسببية، كأنه قيل‏:‏ اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، والعامل في إذا ما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين‏}‏ فإن معناه‏:‏ عسر الأمر عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ العامل فيه ما دل عليه ‏{‏فَذَلِكَ‏}‏ لأنه إشارة إلى النقر، ويومئذٍ بدل من إذا، أو مبتدأ، وخبره يوم عسير، والجملة خبر ‏{‏فذلك‏}‏، وقيل‏:‏ هو ظرف للخبر؛ لأن التقدير وقوع يوم عسير، وقوله‏:‏ ‏{‏غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ تأكيد لعسره عليهم؛ لأن كونه غير يسير، قد فهم من قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمٌ عَسِيرٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏ أي‏:‏ دعني، وهي كلمة تهديد ووعيد، والمعنى‏:‏ دعني والذي خلقته حال كونه وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد، هذا على أن وحيداً منتصب على الحال من الموصول، أو من الضمير العائد إليه المحذوف، ويجوز أن يكون حالاً من الياء في ذرني، أي‏:‏ دعني وحدي معه، فإني أكفيك في الانتقام منه، والأوّل أولى‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهو الوليد بن المغيرة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يقول‏:‏ خلّ بيني وبينه، فأنا أنفرد بهلكته، وإنما خص بالذكر لمزيد كفره، وعظيم جحوده لنعم الله عليه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان يقال في الوليد بن المغيرة‏:‏ إنه دعيّ‏.‏

‏{‏وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً‏}‏ أي‏:‏ كثيراً، أو يمدّ بالزيادة والنماء شيئًا بعد شيء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ مالاً غير منقطع عنه، وقد كان الوليد بن المغيرة مشهوراً بكثرة المال على اختلاف أنواعه‏.‏ قيل‏:‏ كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار‏.‏ وقيل‏:‏ أربعة آلاف دينار‏.‏ وقيل‏:‏ ألف دينار‏.‏ ‏{‏وَبَنِينَ شُهُوداً‏}‏ أي‏:‏ وجعلت له بنين حضوراً بمكة معه لا يسافرون، ولا يحتاجون إلى التفرّق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم‏.‏

قال الضحاك‏:‏ كانوا سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ كانوا ثلاثة عشر ولداً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كانوا سبعة كلهم رجال، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد، فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏شهوداً‏}‏ أنه إذا ذكر ذكروا معه، وقيل‏:‏ كانوا يشهدون معه ما كان يشهده، ويقومون بما كان يباشره ‏{‏وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً‏}‏ أي‏:‏ بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، والتمهيد عند العرب التوطئة، ومنه مهد الصبيّ‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ‏}‏ أي‏:‏ يطمع بعد هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه للنعم، وإشراكه بالله‏.‏ قال الحسن‏:‏ لم يطمع أن أدخله الجنة، وكان يقول‏:‏ إن كان محمد صادقاً، فما خلقت الجنة إلاّ لي‏.‏ ثم ردعه الله سبحانه وزجره فقال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ أي‏:‏ لست أزيده‏.‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً‏}‏ أي‏:‏ معانداً لها كافراً بما أنزلناه منها على رسولنا، يقال‏:‏ عند يعند بالكسر إذا خالف الحق وردّه، وهو يعرفه، فهو عنيد وعاند، والعاند الذي يجوز عن الطريق، ويعدل عن القصد، ومنه قول الحارثي‏:‏

إذا ركبت فاجعلاني وسطا *** إني كبير لا أطيق العندا

قال أبو صالح‏:‏ عنيداً معناه مباعداً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ جاحداً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ معرضاً ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً‏}‏ أي‏:‏ سأكلفه مشقة من العذاب، وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إنه يكلف أن يصعد جبلاً من نار، والإرهاق في كلام العرب‏:‏ أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ‏}‏ تعليل لما تقدّم من الوعيد، أي‏:‏ إنه فكر في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن، وقدّر في نفسه، أي‏:‏ هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول‏:‏ هيأت الشيء إذا قدّرته، وقدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه، وقدّر في نفسه ما يقول، فذمه الله، وقال‏:‏ ‏{‏فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ أي‏:‏ لعن وعذب كيف قدر، أي‏:‏ على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام، كما يقال في الكلام‏:‏ لأضربنه كيف صنع، أي‏:‏ على أيّ حال كانت منه‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ قهر وغلب كيف قدر، ومنه قول الشاعر‏:‏

وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي *** بسهميك في أعشار قلب مقتل

وقال الزهري‏:‏ عذب، وهو من باب الدعاء عليه، والتكرير في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ للمبالغة والتأكيد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نَظَرَ‏}‏ أي‏:‏ بأيّ شيء يدفع القرآن ويقدح فيه، أو فكر في القرآن وتدبر ما هو‏.‏

‏{‏ثُمَّ عَبَسَ‏}‏ أي‏:‏ قطب وجهه لما لم يجد مطعناً يطعن به في القرآن، والعبس مصدر عبس مخففاً، يعبس عبساً وعبوساً إذا قطب‏.‏ وقيل‏:‏ عبس في وجوه المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ عبس في وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَبَسَرَ‏}‏ أي‏:‏ كلح وجهه وتغير، ومنه قول الشاعر‏:‏

صبحنا تميماً غداة الحفار *** بشهباء ملموسة باسره

وقول الآخر‏:‏

وقد رابني منها صدود رأيته *** وإعراضها عن حاجتي وبسورها

وقيل‏:‏ إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبلها، والعرب تقول‏:‏ وجه باسر إذا تغير واسودّ‏.‏ وقال الراغب‏:‏ البسر استعجال الشرّ قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته، أي‏:‏ طلبها في غير أوانها‏.‏ قال‏:‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وَبَسَرَ‏}‏ أي‏:‏ أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته، وأهل اليمن يقولون‏:‏ بسر المركب وأبسر أي‏:‏ وقف لا يتقدّم ولا يتأخر، وقد أبسرنا أي‏:‏ صرنا إلى البسور‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر‏}‏ أي‏:‏ أعرض عن الحقّ، وذهب إلى أهله، وتعظم عن أن يؤمن ‏{‏فَقَالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ‏}‏ أي‏:‏ يأثره عن غيره ويرويه عنه‏.‏ والسحر‏:‏ إظهار الباطل في صورة الحقّ، أو الخديعة على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة، يقال‏:‏ أثرت الحديث بأثره إذا ذكرته عن غيرك، ومنه قول الأعشى‏:‏

إن الذي فيه تحاربتما *** بين للسامع والآثر

‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر‏}‏ يعني‏:‏ أنه كلام الإنس، وليس بكلام الله، وهو تأكيد لما قبله، وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة، وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه‏.‏ ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه، قال الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏سَأُصْلِيهِ سَقَرَ‏}‏ أي‏:‏ سأدخله النار، وسقر من أسماء النار، ومن دركات جهنم‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الجملة بدل من قوله‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً‏}‏ ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ‏}‏ أي‏:‏ وما أعلمك أيّ شيء هي، والعرب تقول‏:‏ وما أدراك ما كذا‏:‏ إذا أرادوا المبالغة في أمره، وتعظيم شأنه وتهويل خطبه، وما الأولى مبتدأ، وجملة ‏{‏مَا سَقَرُ‏}‏ خبر المبتدأ‏.‏ ثم فسر حالها، فقال‏:‏ ‏{‏لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ‏}‏ والجملة مستأنفة لبيان حال سقر، والكشف عن وصفها‏.‏ وقيل‏:‏ هي في محل نصب على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ‏}‏ يدل على التعظيم، فكأنه قال‏:‏ استعظموا سقر في هذه الحال، والأوّل أولى، ومفعول الفعلين محذوف‏.‏ قال السديّ‏:‏ لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً‏.‏ وقال عطاء‏:‏ لا تبقي من فيها حياً ولا تذره ميتاً‏.‏ وقيل‏:‏ هما لفظان بمعنى واحد، كررا للتأكيد كقولك‏:‏ صدّ عني وأعرض عني ‏{‏لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لوّاحة‏}‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف‏.‏

وقيل‏:‏ على أنه نعت لسقر، والأوّل أولى‏.‏ وقرأ الحسن، وعطية العوفي، ونصر بن عاصم، وعيسى بن عمر، وابن أبي عبلة، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل، يقال‏:‏ لاح يلوح، أي‏:‏ ظهر، والمعنى‏:‏ أنها تظهر للبشر‏.‏ قال الحسن‏:‏ تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً كقوله‏:‏ ‏{‏وَبُرّزَتِ الجحيم لِمَن يرى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ‏}‏ أي‏:‏ مغيرة لهم ومسوّدة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ والعرب تقول‏:‏ لاحه الحر والبرد والسقم والحزن‏:‏ إذا غيره، وهذا أرجح من الأوّل، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر‏:‏

وتعجب هند أن رأتني شاحبا *** تقول لشيء لوحته السمائم

أي‏:‏ غيرته، ومنه قول رؤبة بن العجاج‏:‏

لوّح منه بعد بدن وشبق *** تلويحك الضامر يطوى للسبق

وقال الأخفش‏:‏ المعنى أنها معطشة للبشر، وأنشد‏:‏

سقتني على لوح من الماء شربة *** سقاها به الله الرهام الغواديا

والمراد بالبشر‏:‏ إما جلدة الإنسان الظاهرة، كما قاله الأكثر، أو المراد به أهل النار من الإنس، كما قال الأخفش‏.‏ ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ يقول على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها‏.‏ وقيل‏:‏ تسعة عشر صنفاً من أصناف الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ تسعة عشر صفاً من صفوفهم‏.‏ وقيل‏:‏ تسعة عشر نقيباً مع كل نقيب جماعة من الملائكة، والأوّل أولى‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحدة يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تسعة عشر‏}‏ بفتح الشين من عشر، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وطلحة بن سليمان بإسكانها‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال‏:‏ إن أوّل ما نزل من القرآن‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا المدثر‏}‏ فقال له يحيى بن أبي كثير‏:‏ يقولون إن أوّل ما نزل ‏{‏اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ فقال أبو سلمة‏:‏ سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت، فقال جابر‏:‏ لا أحدّثنك إلاّ ما حدّثنا رسول الله قال‏:‏ «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي، فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فحثيت منه رعباً، فرجعت، فقلت‏:‏ دثروني فدثروني، فنزلت‏:‏ ‏{‏رَّحِيمٌ يأَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والرجز فاهجر‏}‏» وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أوّل سورة أنزلت، والجمع ممكن‏.‏

وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا المدثر‏}‏ فقال‏:‏ دثر هذا الأمر، فقم به‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه ‏{‏يأَيُّهَا المدثر‏}‏ قال‏:‏ النائم ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ‏}‏ قال‏:‏ لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل ‏{‏والرجز فاهجر‏}‏ قال‏:‏ الأصنام ‏{‏وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏ قال‏:‏ لا تعط تلتمس بها أفضل منها‏.‏ وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه أيضاً‏.‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ‏}‏ قال‏:‏ من الإثم‏.‏ قال‏:‏ وهي في كلام العرب نقيّ الثياب‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ‏}‏ قال‏:‏ من الغدر، لا تكن غدّاراً‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضاً أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ‏}‏ قال‏:‏ لا تلبسها على غدرة، ثم قال‏:‏ ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة‏:‏

وإني بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنع

وأخرج الطبراني، والبيهقي في سننه عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏ قال‏:‏ لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك أكثر منه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور‏}‏ قال‏:‏ الصور ‏{‏يَوْمٌ عَسِيرٌ‏}‏ قال‏:‏ شديد‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏ قال‏:‏ الوليد بن المغيرة‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً‏:‏ أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال‏:‏ يا عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال‏:‏ قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال‏:‏ فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، قال‏:‏ وماذا أقول‏؟‏ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته؛ قال‏:‏ والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال‏:‏ فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال‏:‏ هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت‏:‏ ‏{‏ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏‏.‏ وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً، وكذا أخرجه ابن جرير، وابن إسحاق، وابن المنذر، وغير واحد‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً‏}‏ قال‏:‏ غلة شهر بشهر‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً‏}‏ قال‏:‏ ألف دينار‏.‏

وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً‏}‏ قال‏:‏ هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت، فإذا رفعوها عادت كما كانت‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏عَنِيداً‏}‏ قال‏:‏ جحوداً‏.‏ وأخرج أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي وهو كذلك فيه أبداً» قال الترمذي بعد إخراجه‏:‏ غريب لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة عن درّاج‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وفيه غرابة ونكارة انتهى، وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏صَعُوداً‏}‏ صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه قال‏:‏ جبل في النار‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ‏}‏ قال‏:‏ لا تبقي منهم شيئًا، وإذا بدّلوا خلقاً آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأوّل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً ‏{‏لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ‏}‏ قال‏:‏ تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه، فيصير أسود من الليل‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏لَوَّاحَةٌ‏}‏ قال‏:‏ محرقة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن البراء‏:‏ أن رهطاً من اليهود سألوا بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فقال‏:‏ الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه ساعتئذٍ ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 37‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏ كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

لما نزل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 30‏]‏ قال أبو جهل‏:‏ أما لمحمد من الأعوان إلاّ تسعة عشر يخوّفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم يخرجون من النار‏؟‏ فقال أبو الأشدّ، وهو رجل من بني جمح‏:‏ يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة، فأنا أمشي بين أيديكم، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، ونمضي ندخل الجنة، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ مَلَئِكَةً‏}‏ يعني‏:‏ ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلاّ ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، فكيف تتعاطون أيها الكفار مغالبتهم‏.‏ وقيل‏:‏ جعلهم ملائكة؛ لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجنّ والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجالس من الرقة والرأفة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له، وأشدهم بأساً وأقواهم بطشاً ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً‏}‏ أي‏:‏ ضلالة لِلَّذِينَ استقلوا عددهم، ومحنة لهم، والمعنى‏:‏ ما جعلناهم عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلاّ ضلالة ومحنة لهم، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏إِلاَّ فِتْنَةً‏}‏ إلاّ عذاباً، كما في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ يعذبون، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ متعلق ب ‏{‏جعلنا‏}‏، والمراد بأهل الكتاب‏:‏ اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم‏.‏ قاله قتادة، والضحاك، ومجاهد، وغيرهم، والمعنى‏:‏ أن الله جعل عدّة الخزنة هذه العدّة؛ ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم‏.‏

‏{‏وَيَزْدَادَ الذين ءامَنُواْ إيمانا‏}‏ وقيل‏:‏ المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام‏.‏ وقيل‏:‏ أراد الذين آمنوا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم، وجملة ‏{‏وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون‏}‏ مقرّرة لما تقدّم من الاستيقان وازدياد الإيمان، والمعنى‏:‏ نفي الارتياب عنهم في الدّين، أو في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك ‏{‏وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً‏}‏ المراد بالذين في قلوبهم مرض‏:‏ هم المنافقون؛ والسورة وإن كانت مكية، ولم يكن إذ ذاك نفاق، فهو إخبار بما سيكون في المدينة، أو المراد بالمرض مجرّد حصول الشكّ والريب، وهو كائن في الكفار‏.‏ قال الحسين بن الفضل‏:‏ السورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، فالمرض في هذه الآية الخلاف، والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏والكافرون‏}‏ كفار العرب من أهل مكة، وغيرهم، ومعنى ‏{‏مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً‏}‏‏:‏ أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل‏.‏

قال الليث‏:‏ المثل الحديث، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏ أي‏:‏ حديثها، والخبر عنها ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الإضلال المتقدّم ذكره، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏يُضِلُّ الله مَن يَشَاء‏}‏ من عباده، والكاف نعت مصدر محذوف ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ من عباده، والمعنى‏:‏ مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين، يضلّ الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ كذلك يضلّ الله عن الجنة من يشاء، ويهدي إليها من يشاء‏.‏

‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ‏}‏ أي‏:‏ ما يعلم عدد خلقه، ومقدار جموعه من الملائكة، وغيرهم إلاّ هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدّتهم إلاّ الله، والمعنى‏:‏ أن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلاّ الله سبحانه‏.‏ ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا هِىَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ‏}‏ أي‏:‏ وما سقر، وما ذكر من عدد خزنتها إلاّ تذكرة وموعظة للعالم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وَمَا هِىَ‏}‏ أي‏:‏ الدلائل والحجج والقرآن إلاّ تذكرة للبشر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة، وهو بعيد‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏مَا هِىَ‏}‏ أي‏:‏ عدّة خزنة جهنم إلاّ تذكرة للبشر؛ ليعلموا كمال قدرة الله، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏وَمَا هِىَ‏}‏ يرجع إلى الجنود‏.‏

ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ والقمر‏}‏ قال الفراء‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ صلة للقسم، التقدير، أي‏:‏ والقمر‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ حقاً والقمر‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ المعنى ردّ زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم أي‏:‏ ليس الأمر كما يقول، ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده، وهذا هو الظاهر من معنى الآية‏.‏ ‏{‏واليل إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ أي‏:‏ ولى‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ «إذا» بزيادة الألف، دبر بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان، وقرأ نافع، وحفص، وحمزة‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ بدون ألف، أدبر بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان ودبر، وأدبر لغتان، كما يقال‏:‏ أقبل الزمان وقبل الزمان، يقال‏:‏ دبر الليل وأدبر‏:‏ إذا تولى ذاهباً‏.‏ ‏{‏والصبح إِذَا أَسْفَرَ‏}‏ أي‏:‏ أضاء وتبين ‏{‏إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر‏}‏ هذا جواب القسم، والضمير راجع إلى سقر، أي‏:‏ إنّ سقر لإحدى الدواهي، أو البلايا الكبر، والكبر جمع كبرى، وقال مقاتل‏:‏ إن الكبر اسم من أسماء النار‏.‏ وقيل‏:‏ إنها أي‏:‏ تكذبيهم لمحمد لإحدى الكبر‏.‏ وقيل‏:‏ إن قيام الساعة لإحدى الكبر، ومنه قول الشاعر‏:‏

يابن المعلى نزلت إحدى الكبر *** داهية الدهر وصماء الغير

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لإحدى‏}‏ بالهمزة، وقرأ نصر بن عاصم، وابن محيصن، وابن كثير في رواية عنه‏:‏ «إنها لحدى» بدون همزة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها‏.‏ ‏{‏نَذِيراً لّلْبَشَرِ‏}‏ انتصاب ‏{‏نذيراً‏}‏ على الحال من الضمير في ‏{‏إنها‏}‏، قاله الزجاج‏.‏ وروي عنه، وعن الكسائي، وأبي عليّ الفارسي أنه حال من قوله‏:‏ ‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 2‏]‏ أي‏:‏ قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيراً للبشر‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدّر‏.‏ وقيل‏:‏ إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التنظيم كأنه قيل‏:‏ أعظم الكبر إنذاراً، وقيل‏:‏ إنه مصدر منصوب بأنذر المذكور في أوّل السورة‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب بإضمار أعني، وقيل‏:‏ منصوب بتقدير ادع‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب بتقدير ناد أو بلغ‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مفعول لأجله، والتقدير‏:‏ وإنها لإحدى الكبر؛ لأجل إنذار البشر‏.‏ قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ أبيّ بن كعب، وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هي نذير، أو هو نذير‏.‏

وقد اختلف في النذير، فقال الحسن‏:‏ هي النار‏.‏ وقيل‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال أبو رزين‏:‏ المعنى أنا نذير لكم منها، وقيل‏:‏ القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ هو بدل من قوله‏:‏ ‏{‏لّلْبَشَرِ‏}‏ أي‏:‏ نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى الطاعة أو يتأخر عنها، والمعنى‏:‏ أن الإنذار قد حصل لكل من آمن وكفر، وقيل‏:‏ فاعل المشيئة هو الله سبحانه، أي‏:‏ لمن شاء الله أن يتقدّم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر، والأوّل أولى‏.‏ وقال السديّ‏:‏ لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر إلى الجنة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ لما سمع أبو جهل ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏‏.‏ قال لقريش‏:‏ ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدّهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطش برجل من خزنة جهنم‏؟‏ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ قال‏:‏ قال أبو الأشدّ‏:‏ خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم، قال‏:‏ وحدّثت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصف خزّان جهنم فقال‏:‏ «كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي يجرّون أشعارهم، لهم مثل قوّة الثقلين، يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم» وأخرج الطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري‏:‏ «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة أسري به قال‏:‏ فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا، فإذا أنا بملك يقال له‏:‏ إسماعيل، وهو صاحب سماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف، وتلا هذه الآية ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ‏}‏»

وأخرج أحمد عن أبي ذرّ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أصبع إلاّ عليه ملك ساجد» وأخرجه الترمذي، وابن ماجه‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حسن غريب، ويروى عن أبي ذرّ موقوفاً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ قال‏:‏ دبور ظلامه‏.‏ وأخرج مسدّد في مسنده، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏واليل إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان، ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ قال‏:‏ من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 56‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ‏}‏ أي‏:‏ مأخوذة بعملها ومرتهنة به، إما خلصها وإما أوبقها، والرهينة اسم بمعنى الرهن، كالشيمة بمعنى الشيم، وليست صفة، ولو كانت صفة لقيل‏:‏ رهين؛ لأن فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمعنى‏:‏ كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أصحاب اليمين‏}‏ فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم، بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم‏.‏

واختلف في تعيينهم‏.‏ فقيل‏:‏ هم الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ المؤمنون‏.‏ وقيل‏:‏ أولاد المسلمين‏.‏ وقيل‏:‏ الذين كانوا عن يمين آدم‏.‏ وقيل‏:‏ أصحاب الحقّ‏.‏ وقيل‏:‏ هم المعتمدون على الفضل دون العمل‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين اختارهم الله لخدمته ‏{‏فِي جنات‏}‏ هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف جواباً عن سؤال نشأ مما قبله، ويجوز أن يكون ‏{‏في جنات‏}‏ حالاً من ‏{‏أصحاب اليمين‏}‏، وأن يكون حالاً من فاعل ‏{‏يتساءلون‏}‏، وأن يكون ظرفاً ل ‏{‏يتساءلون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَتَسَاءلُونَ‏}‏ يجوز أن يكون على بابه، أي‏:‏ يسأل بعضهم بعضاً، ويجوز أن يكون بمعنى يسألون أي‏:‏ يسألون غيرهم، نحو دعيته وتداعيته، فعلى الوجه الأوّل يكون ‏{‏عَنِ المجرمين‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏يتساءلون‏}‏ أي‏:‏ يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين، وعلى الوجه الثاني تكون «عن» زائدة، أي‏:‏ يسألون المجرمين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ‏}‏ هو على تقدير القول، أي‏:‏ يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم‏:‏ ما سلككم في سقر، أو يسألونهم قائلين لهم‏:‏ ما سلككم في سقر، والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال، والمعنى‏:‏ ما أدخلكم في سقر، تقول سلكت الخيط في كذا‏:‏ إذا دخلته فيه‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له‏:‏ يا فلان ما سلكك في النار‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم‏:‏ ما سلككم في سقر‏.‏ قال الفراء‏:‏ في هذا ما يقوّي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب‏.‏ ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار عليهم فقال‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين‏}‏ أي‏:‏ من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين‏}‏ أي‏:‏ لم نتصدق على المساكين‏.‏ قيل‏:‏ وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة الواجبة؛ لأنه لا تعذيب على غير الواجب، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين‏}‏ أي‏:‏ نخالط أهل الباطل في باطلهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ كلما غوى غاوٍ غوينا معه‏.‏ وقال السديّ‏:‏ كنا نكذب مع المكذبين‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم‏:‏ كاذب مجنون ساحر شاعر‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين‏}‏ أي‏:‏ بيوم الجزاء والحساب ‏{‏حتى أتانا اليقين‏}‏ وهو‏:‏ الموت، كما في قوله‏:‏

‏{‏واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 99‏]‏‏.‏

‏{‏فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين‏}‏ أي‏:‏ شفاعة الملائكة والنبيين، كما تنفع الصالحين‏.‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ‏}‏ التذكرة التذكير بمواعظ القرآن، والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها، وانتصاب ‏{‏معرضين‏}‏ على الحال من الضمير في متعلق الجارّ والمجرور، أي‏:‏ أيّ شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى‏.‏ ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ‏}‏ والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل، ومعنى مُّسْتَنفِرَةٌ‏:‏ نافرة، يقال‏:‏ نفر واستنفر، مثل عجب واستعجب، والمراد الحمر الوحشية‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مستنفرة‏}‏ بكسر الفاء، أي‏:‏ نافرة، وقرأ نافع، وابن عامر بفتحها، أي‏:‏ منفرة مذعورة، واختار القراءة الثانية أبو حاتم، وأبو عبيد‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له، وحملها عليه، ‏{‏فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ‏}‏ أي‏:‏ من رماة يرمونها، والقسور الرامي، وجمعه قسورة، قاله سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن كيسان‏.‏ وقيل‏:‏ هو الأسد، قاله عطاء والكلبي‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ من القسر بمعنى القهر؛ لأنه يقهر السباع‏.‏ وقيل‏:‏ القسورة أصوات الناس‏.‏ وقيل‏:‏ القسورة بلسان العرب الأسد، وبلسان الحبشة الرماة‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ القسورة أوّل الليل، أي‏:‏ فرت من ظلمة الليل، وبه قال عكرمة، والأوّل أولى، وكلّ شديد عند العرب فهو‏:‏ قسورة، ومنه قول الشاعر‏:‏

يا بنت كوني خيرة لخيره *** أخوالها الحيّ وأهل القسورة

ومنه قول لبيد‏:‏

إذا ما هتفنا هتفة في ندينا *** أتانا الرجال العابدون القساور

ومن إطلاقه على الأسد قول الشاعر‏:‏

مضمر تحذره الأبطال *** كأنه القسوّر الرهال

‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً‏}‏ عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل‏:‏ لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريد‏.‏ قال المفسرون‏:‏ إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسول الله‏.‏ والصحف الكتب واحدتها صحيفة، والمنشرة المنشورة المفتوحة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏منشرة‏}‏ بالتشديد‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف‏.‏ وقرأ الجمهور أيضاً‏:‏ بضم الحاء من صحف‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير بإسكانها‏.‏ ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة‏}‏ يعني‏:‏ عذاب الآخرة؛ لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ كلا بمعنى حقاً‏.‏ ثم كرّر الردع والزجر لهم فقال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، أو حقاً إنه تذكرة، والمعنى‏:‏ أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه‏.‏

‏{‏فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ أي‏:‏ فمن شاء أن يتعظ به اتعظ‏.‏ ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يذكرون‏}‏ بالياء التحتية‏.‏ وقرأ نافع، ويعقوب بالفوقية، واتفقوا على التخفيف، وقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ أن يشاء الله‏}‏ استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال‏.‏ قال مقاتل‏:‏ إلاّ أن يشاء الله لهم الهدى ‏{‏هُوَ أَهْلُ التقوى‏}‏ أي‏:‏ هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته ‏{‏وَأَهْلُ المغفرة‏}‏ أي‏:‏ هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة، فيغفر ذنوبهم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ‏}‏ قال‏:‏ مأخوذة بعملها‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أصحاب اليمين‏}‏ قال‏:‏ هم المسلمون‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عليّ بن أبي طالب‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أصحاب اليمين‏}‏ قال‏:‏ هم أطفال المسلمين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏حتى أتانا اليقين‏}‏ قال‏:‏ الموت‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن أبي موسى الأشعري في قوله‏:‏ ‏{‏فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هم الرماة رجال القسيّ‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ القسورة الرجال الرماة القنص‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي جمرة قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ القسورة الأسد، فقال‏:‏ ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هم عصبة الرجال‏.‏ وأخرج سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس ‏{‏مِن قَسْوَرَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هو ركز الناس يعني‏:‏ أصواتهم‏.‏ وأخرج أحمد، والدارمي، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ وصححه، وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ‏{‏هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة‏}‏ فقال‏:‏ قال ربكم‏:‏ «أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها، فأنا أهل أن أغفر له» وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس مرفوعاً نحوه‏.‏

سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 25‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ قال أبو عبيدة، وجماعة المفسرين‏:‏ إن «لا» زائدة، والتقدير‏:‏ أقسم‏.‏ قال السمرقندي‏:‏ أجمع المفسرون أن معنى ‏{‏لا أقسم‏}‏‏:‏ أقسم، واختلفوا في تفسير ‏"‏ لا ‏"‏، فقال بعضهم‏:‏ هي زائدة، وزيادتها جارية في كلام العرب، كما في قوله‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ يعني‏:‏ أن تسجد، و‏:‏ ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ ومن هذا قول الشاعر‏:‏

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة *** وكاد صميم القلب لا يتقطع

وقال بعضهم‏:‏ هي ردّ لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال‏:‏ ليس الأمر كما ذكرتم، أقسم بيوم القيامة، وهذا قول الفرّاء، وكثير من النحويين، كقول القائل‏:‏ لا والله، فلا ردّ لكلام قد تقدّمها، ومنه قول الشاعر‏:‏

فلا وأبيك ابنة العامري *** لا يدّعى القوم أني أفر

وقيل‏:‏ هي للنفي، لكن لا لنفي الإقسام، بل لنفي ما ينبيء عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه، كأن معنى لا أقسم بكذا‏:‏ لا أعظمه بإقسامي به حقّ إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر، وقد تقدّم الكلام على هذا في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75‏]‏‏.‏ وقرأ الحسن، وابن كثير في رواية عنه، والزهري، وابن هرمز‏:‏ ‏"‏ لأقسم ‏"‏ بدون ألف على أن اللام لام الابتداء، والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال، وقد اعترض عليه الرازي بما لا يقدح في قوّته، ولا يفتّ في عضد رجحانه، وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته‏.‏

‏{‏وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة‏}‏ ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس اللوّامة، كما أقسم بيوم القيامة، فيكون الكلام في ‏"‏ لا ‏"‏ هذه كالكلام في الأولى، وهذا قول الجمهور‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوّامة‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً، ومعنى النفس اللوامة‏:‏ النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره، أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها‏.‏ قال الحسن‏:‏ هي والله نفس المؤمن، لا يرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه ما أردت بكذا ما أردت بكذا، والفاجر لا يعاتب نفسه‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشرّ لم تعمله‏؟‏ وعلى الخير لم لم تستكثر منه‏؟‏ قال الفرّاء‏:‏ ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيراً قالت‏:‏ هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءاً قالت‏:‏ ليتني لم أفعل‏.‏ وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس، فيكون الإقسام بها حسناً سائغاً‏.‏ وقيل‏:‏ اللوّامة هي الملومة المذمومة، فهي صفة ذمّ، وبهذا احتج من نفى أن يكون قسماً، إذ ليس لنفس العاصي خطر يقسم به‏.‏

قال مقاتل‏:‏ هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله‏.‏ والأوّل أولى‏.‏

‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ‏}‏ المراد بالإنسان الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ الإنسان الكافر، والهمزة للإنكار، وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، والمعنى‏:‏ أيحسب الإنسان أن الشأن أن لن نجمع عظامه بعد أن صارت رفاتاً، فنعيدها خلقاً جديداً، وذلك حسبان باطل، فإنا نجمعها، وما يدلّ عليه هذا الكلام هو جواب القسم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة ليجمعنّ العظام للبعث، فهذا جواب القسم‏.‏ وقال النحاس‏:‏ جواب القسم محذوف، أي‏:‏ ليبعثنّ، والمعنى‏:‏ أن الله سبحانه يبعث جميع أجزاء الإنسان، وإنما خصّ العظام لأنها قالب الخلق‏.‏ ‏{‏بلى قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ‏}‏ بلى إيجاب لما بعد النفي المنسحب إليه الاستفهام، والوقف على هذا اللفظ وقف حسن، ثم يبتدئ الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏قادرين‏}‏ وانتصاب ‏{‏قادرين‏}‏ على الحال، أي‏:‏ بلى نجمعها قادرين، فالحال من ضمير الفعل المقدّر‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ بل نجمعها نقدر قادرين‏.‏ قال الفراء‏:‏ أي نقدر ونقوى قادرين على أكثر من ذلك‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ إنه يصلح نصبه على التكرير، أي‏:‏ بلى فليحسبنا قادرين‏.‏ وقيل التقدير‏:‏ بلى كنا قادرين‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة، وابن السميفع ‏(‏بلى قادرون‏)‏ على تقدير مبتدأ، أي‏:‏ بلى نحن قادرون، ومعنى‏:‏ ‏{‏على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ‏}‏‏:‏ على أن نجمع بعضها إلى بعض، فنردّها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف بكبار الأعضاء، فنبه سبحانه بالبنان، وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق، فهذا وجه تخصيصها بالذكر، وبهذا قال الزجاج، وابن قتيبة‏.‏ وقال جمهور المفسرين‏:‏ إن معنى الآية‏:‏ أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئًا واحداً، كخف البعير وحافر الحمار صفيحة واحدة لا شقوق فيها، فلا يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة ونحوهما، ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ بل نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، والأوّل أولى، ومنه قول عنترة‏:‏

وإن الموت طوع يدي إذا ما *** وصلت بنانها بالهندوان

فنبه بالبنان على بقية الأعضاء‏.‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ هو عطف على ‏{‏أيحسب‏}‏، إما على أنه استفهام مثله، وأضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا، أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام‏.‏ والمعنى‏:‏ بل يريد الإنسان أن يقدم فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وما يستقبله من الزمان، فيقدم الذنب ويؤخر التوبة‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ يريد أن يفجر ما امتدّ عمره، وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه‏.‏

قال مجاهد، والحسن، وعكرمة، والسديّ، وسعيد بن جبير‏:‏ يقول سوف أتوب، ولا يتوب حتى يأتيه الموت‏.‏ وهو على أشرّ أحواله‏.‏ قال الضحاك‏:‏ هو الأمل، يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا، ولا يذكر الموت، والفجور أصله‏:‏ الميل عن الحقّ، فيصدق على كل من مال عن الحق بقول أو فعل، ومنه قول الشاعر‏:‏

أقسم بالله أبو حفص عمر *** ما مسها من نقب ولا دبر

اغفر له اللَّهم إن كان فجر *** وجملة ‏{‏يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة‏}‏ مستأنفة لبيان معنى يفجر، والمعنى‏:‏ يسأل متى يوم القيامة سؤال استبعاد واستهزاء‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَرِقَ البصر‏}‏ أي‏:‏ فزع وتحير، من برق الرجل‏:‏ إذا نظر إلى البرق فدهش بصره‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏برق‏}‏ بكسر الراء‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء، والزجاج وغيرهما‏:‏ المعنى تحير فلم يطرف، ومنه قول ذي الرّمة‏:‏

ولو أن لقمان الحكيم تعرّضت *** لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق

وقال الخليل، والفراء‏:‏ ‏{‏برق‏}‏ بالكسر‏:‏ فزع وبهت وتحير، والعرب تقول للإنسان المبهوت‏:‏ قد برق، فهو بارق، وأنشد الفرّاء‏:‏

ونفسك فانع ولا تنعني *** وداو الكلوم ولا تبرق

أي‏:‏ لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك‏.‏ وقرأ نافع، وأبان عن عاصم‏:‏ «برق» بفتح الراء، أي‏:‏ لمع بصره من شدة شخوصه للموت‏.‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ هذا عند الموت، وقيل‏:‏ برق يبرق شق عينيه وفتحهما‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى ‏{‏وَخَسَفَ القمر‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏خسف‏}‏ بفتح الخاء والسين مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى، والأعرج، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة بضم الخاء وكسر السين مبنياً للمفعول، ومعنى ‏{‏وخسف القمر‏}‏‏:‏ ذهب ضوؤه، ولا يعود كما يعود إذا خسف في الدنيا، ويقال‏:‏ خسف‏:‏ إذا ذهب جميع ضوئه، وكسف‏:‏ إذا ذهب بعض ضوئه‏.‏ ‏{‏وَجُمِعَ الشمس والقمر‏}‏ أي‏:‏ ذهب ضوؤهما جميعاً، ولم يقل «جمعت» لأن التأنيث مجازيّ‏.‏ قاله المبرد‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هو لتغليب المذكر على المؤنث‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ حمل على معنى جمع النيران‏.‏ وقال الزجاج، والفراء‏:‏ ولم يقل «جمعت» لأن المعنى جمع بينهما في ذهاب نورهما‏.‏ وقيل‏:‏ جمع بينهما في طلوعهما من الغرب أسودين مكوّرين مظلمين‏.‏ قال عطاء‏:‏ يجمع بينهما يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى‏.‏ وقيل‏:‏ تجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «وجمع بين الشمس والقمر»‏.‏ ‏{‏يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر‏}‏ أي‏:‏ يقول عند وقوع هذه الأمور‏:‏ أين المفرّ‏؟‏ أي‏:‏ الفرار، والمفرّ مصدر بمعنى الفرار‏.‏ قال الفراء‏:‏ يجوز أن يكون موضع الفرار، ومنه قول الشاعر‏:‏

أين المفرّ والكباش تنتطح *** وكل كبش فرّ منها يفتضح

قال الماوردي‏:‏ يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما ابن المفرّ من الله سبحانه استحياء منه‏.‏

والثاني أين المفرّ من جهنم حذراً منها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أين المفرّ‏}‏ بفتح الميم والفاء مصدراً، كما تقدّم‏.‏ وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة بفتح الميم وكسر الفاء على أنه اسم مكان، أي‏:‏ أين مكان الفرار‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هما لغتان مثل مدب ومدب، ومصح ومصح، وقرأ الزهري بكسر الميم وفتح الفاء على أن المراد به الإنسان الجيد الفرار، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا *** كجلمود صخر حطه السيل من عل

أي‏:‏ جيد الفرّ والكرّ‏.‏ ‏{‏كَلاَّ لاَ وَزَرَ‏}‏ أي‏:‏ لا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ لا محيص ولا منعة‏.‏ والوزر في اللغة‏:‏ ما يلجأ إليه الإنسان من حصن أو جبل أو غيرهما، ومنه قول طرفة‏:‏

ولقد تعلم بكر أننا *** فاضلوا الرأي وفي الروع وزر

وقال آخر‏:‏

لعمري ما للفتى من وزر *** من الموت يدركه والكبر

قال السديّ‏:‏ كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال، فقال لهم الله‏:‏ لا وزر يعصمكم مني يومئذٍ، وكلاّ للردع أو لنفي ما قبلها، أو بمعنى حقاً ‏{‏إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر‏}‏ أي‏:‏ المرجع والمنتهى والمصير لا إلى غيره‏.‏ وقيل‏:‏ إليه الحكم بين العباد لا إلى غيره‏.‏ وقيل المستقر‏:‏ الاستقرار حيث يقرّه الله ‏{‏يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ أي‏:‏ يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشرّ‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بما عمل من طاعة وما أخر من طاعة فلم يعمل بها‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ بما قدّم من أمواله وما خلف للورثة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بأوّل عمله وآخره‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ بما قدّم من فرض وأخر من فرض‏.‏ قال القشيري‏:‏ هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والأوّل أظهر ‏{‏بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏}‏ ارتفاع بصيرة على أنها خبر الإنسان، على نفسه متعلق ببصيرة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل‏:‏ أنت حجة على نفسك‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إن جوارحه تشهد عليه بما عمل، كما في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 24‏]‏ وأنشد الفرّاء‏:‏

كأن على ذي العقل عينا بصيرة *** بمقعده أو منظر هو ناظر

فيكون المعنى‏:‏ بل جوارح الإنسان عليه شاهدة‏.‏ قال أبو عبيدة، والقتيبي‏:‏ إن هذه الهاء في بصيرة هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة، كما في قولهم‏:‏ علامة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير وشرّ، والتاء على هذا للتأنيث‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أي‏:‏ بصير بعيوب نفسه ‏{‏وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ أي‏:‏ ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك‏.‏ يقال‏:‏ معذرة ومعاذير‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ أي وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعاذير الستور، والواحد معذار، أي‏:‏ وإن أرخى الستور يريد أن يخفي نفسه فنفسه شاهدة عليه، كذا قال الضحاك، والسديّ‏.‏

والستر بلغة اليمن يقال له‏:‏ معذار، كذا قال المبرد، ومنه قول الشاعر‏:‏

ولكنها ضنت بمنزل ساعة *** علينا وأطت يومها بالمعاذر

والأوّل أولى، وبه قال مجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير، وابن زيد، وأبو العالية، ومقاتل، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقول الشاعر‏:‏

فما حسن أن يعذر المرء نفسه *** وليس له من سائر الناس عاذر

‏{‏لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصاً على أن يحفظه صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، أي‏:‏ لا تحرّك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك، ومثل هذا قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏ الآية، ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ‏}‏ في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء ‏{‏وَقُرْءانَهُ‏}‏ أي‏:‏ إثبات قراءته في لسانك‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ القراءة والقرآن مصدران‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏فاتبع قُرْءانَهُ‏}‏ أي‏:‏ شرائعه وأحكامه‏.‏ ‏{‏فَإِذَا قرأناه‏}‏ أي‏:‏ أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل ‏{‏فاتبع قُرْءانَهُ‏}‏ أي‏:‏ قراءته‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ أي‏:‏ تفسير ما فيه من الحلال والحرام، وبيان ما أشكل منه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى علينا أن ننزله عليك قرآناً عربياً فيه بيان للناس‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إن علينا أن نبينه بلسانك‏.‏

‏{‏كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة‏}‏ كلا للردع عن العجلة، والترغيب في الأناة‏.‏ وقيل‏:‏ هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن وبكونه بيناً من الكفار‏.‏ قال عطاء‏:‏ أي‏:‏ لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه‏.‏ قرأ أهل المدينة، والكوفيون‏:‏ ‏{‏بل تحبون‏}‏ ‏{‏وتذرون‏}‏ بالفوقية في الفعلين جميعاً‏.‏ وقرأ الباقون بالتحتية فيهما، فعلى القراءة الأولى يكون الخطاب لهم تقريعاً وتوبيخاً، وعلى القراءة الثانية يكون الكلام عائداً إلى الإنسان لأنه بمعنى الناس، والمعنى‏:‏ تحبون الدنيا، وتتركون ‏{‏الأخرة‏}‏ فلا تعملون لها‏.‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ ناعمة غضة حسنة، يقال‏:‏ شجر ناضر، وروض ناضر، أي‏:‏ حسن ناعم، ونضارة العيش حسنه وبهجته‏.‏ قال الواحدي، والمفسرون‏:‏ يقولون مضيئة مسفرة مشرقة ‏{‏إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ هذا من النظر، أي‏:‏ إلى خالقها ومالك أمرها ناظرة، أي‏:‏ تنظر إليه، هكذا قال جمهور أهل العلم، والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، وروي نحوه عن عكرمة‏.‏

وقيل‏:‏ لا يصح هذا إلاّ عن مجاهد وحده‏.‏ قال الأزهري‏:‏ وقول مجاهد خطأ؛ لأنه لا يقال‏:‏ نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل‏:‏ نظرت إلى فلان ليس إلاّ رؤية عين، إذا أرادوا الانتظار قالوا‏:‏ نظرته، كما في قول الشاعر‏:‏

فإنكما إن تنظراني ساعة *** من الدهر تنفعني لدى أمّ جندب

فإذا أرادوا نظر العين قالوا‏:‏ نظرت إليه، كما قال الشاعر‏:‏

نظرت إليها والنجوم كأنها *** مصابيح رهبان تشب لفعال

وقال الآخر‏:‏

إني إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر

أي‏:‏ انظر إليك نظر ذلّ كما ينظر الفقير إلى الغنيّ، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدّاً‏.‏ و‏{‏وجوه‏}‏ مبتدأ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة؛ لأن المقام مقام تفصيل، وناضرة صفة لوجوه، ويومئذٍ ظرف لناضرة، ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله‏:‏ ‏{‏نَّاضِرَةٌ‏}‏ مسوّغاً للابتداء بها، ولكن مقام التفصيل بمجرّده مسوّغ للابتداء بالنكرة‏.‏ ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ كالحة عابسة كئيبة‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ بسر الرجل وجهه بسوراً، أي‏:‏ كلح‏.‏ قال السديّ‏:‏ باسرة أي‏:‏ متغيرة‏.‏ وقيل‏:‏ مصفرّة، والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار ‏{‏تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ‏}‏ الفاقرة‏:‏ الداهية العظيمة، يقال‏:‏ فقرته الفاقرة، أي‏:‏ كسرت فقار ظهره‏.‏ قال قتادة‏:‏ الفاقرة الشرّ، وقال السديّ‏:‏ الهلاك، وقال ابن زيد‏:‏ دخول النار‏.‏ وأصل الفاقرة‏:‏ الوسم على أنف البعير بحديدة، أو نار حتى تخلص إلى العظم، كذا قال الأصمعي، ومن هذا قولهم‏:‏ قد عمل به الفاقرة‏.‏ قال النابغة‏:‏

أبا لي قبر لا يزال مقابلي *** وضربة فأس فوق رأسي فاقره

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ قال‏:‏ يقسم ربك بما شاء من خلقه، قلت‏:‏ ‏{‏وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة‏}‏ قال‏:‏ النفس اللؤوم‏.‏ قلت‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بلى قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ‏}‏ قال‏:‏ لو شاء لجعله خفاً أو حافراً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه‏.‏ ‏{‏اللوامة‏}‏ قال‏:‏ المذمومة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه أيضاً قال‏:‏ التي تلوم على الخير والشرّ تقول‏:‏ لو فعلت كذا وكذا‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال‏:‏ تندم على ما فات وتلوم عليه‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ قال‏:‏ يمضي قدماً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال‏:‏ هو الكافر الذي يكذب بالحساب‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ يعني الأمل، يقول‏:‏ أعمل ثم أتوب‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الأمل، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ يقدّم الذنب ويؤخر التوبة‏.‏

وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ يقول‏:‏ سوف أتوب ‏{‏يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة‏}‏ قال‏:‏ يقول متى يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ فبين له ‏{‏إِذَا بَرِقَ البصر‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ ‏{‏إِذَا بَرِقَ البصر‏}‏ يعني‏:‏ الموت‏.‏

وأخرج عبد ابن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ وَزَرَ‏}‏ قال‏:‏ لا حصن‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ وَزَرَ‏}‏ قال‏:‏ لا حصن ولا ملجأ، وفي لفظ‏:‏ لا حرز، وفي لفظ‏:‏ لا جبل‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ قال‏:‏ بما قدّم من عمل، وأخر من سنة عمل بها من بعده من خير أو شرّ‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ بما قدّم من المعصية وأخر من الطاعة فينبؤ بذلك‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه في قوله‏:‏ ‏{‏بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ شهد على نفسه وحده ‏{‏وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ قال‏:‏ ولو اعتذر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه‏:‏ ‏{‏بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه ‏{‏وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ قال‏:‏ ولو تجرّد من ثيابه‏.‏

وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرّك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه يريد أن يحفظه، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ‏}‏ قال‏:‏ يقول إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه ‏{‏فَإِذَا قرأناه‏}‏ يقول‏:‏ إذا أنزلناه عليك ‏{‏فاتبع قُرْءانَهُ‏}‏ فاستمع له وأنصت ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ أن نبينه بلسانك، وفي لفظ‏:‏ علينا أن نقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق‏.‏ وفي لفظ‏:‏ استمع، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه ‏{‏فَإِذَا قرأناه‏}‏ قال‏:‏ بيناه ‏{‏فاتبع قُرْءانَهُ‏}‏ يقول‏:‏ اعمل به‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة‏}‏ قال‏:‏ عجلت لهم الدنيا شرّها وخيرها، وغيبت الآخرة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ ناعمة‏.‏

وأخرج ابن المنذر، والآجري في الشريعة، واللالكائي في السنة، والبيهقي في الرؤية عنه‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ حسنها ‏{‏إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ نظرت إلى الخالق‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ تنظر إلى وجه ربها‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ قال‏:‏ «ينظرون إلى ربهم بلا كيفية، ولا حدّ محدود، ولا صفة معلومة» وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال‏:‏ قال الناس‏:‏ يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ «هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب» قالوا‏:‏ لا يا رسول الله، قال‏:‏ «فهل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب» قالوا‏:‏ لا يا رسول الله، قال‏:‏ «فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك» وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه‏.‏ وقد قدّمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها، وهي تأتي في مصنف مستقلّ، ولم يتمسك من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والدارقطني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه، وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة، وعشية» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏‏.‏ وأخرجه أحمد في المسند من حديثه بلفظ‏:‏ «إن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرّتين» وأخرج النسائي، والدارقطني وصححه، وأبو نعيم عن أبي هريرة قال‏:‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله هل نرى ربنا‏؟‏ قال‏:‏ «هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه، وترون القمر في ليلة لا غيم فيها‏؟‏» قلنا‏:‏ نعم، قال‏:‏ «فإنكم سترون ربكم عزّ وجلّ، حتى إن أحدكم ليحاضر ربه محاضرة، فيقول‏:‏ عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ ألم تغفر لي‏؟‏ فيقول‏:‏ بمغفرتي صرت إلى هذا»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 40‏]‏

‏{‏كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع وزجر، أي‏:‏ بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة، ثم استأنف، فقال‏:‏ ‏{‏إِذَا بَلَغَتِ التراقى‏}‏ أي‏:‏ بلغت النفس أو الروح التراقي، وهي جمع ترقوة، وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 83‏]‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏كَلاَّ‏}‏‏:‏ حقاً، أي‏:‏ حقاً أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي، والمقصود‏:‏ تذكيرهم شدّة الحال عند نزول الموت‏.‏ قال دريد بن الصمة‏:‏

وربّ كريهة دافعت عنها *** وقد بلغت نفوسهم التراقي

‏{‏وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ‏}‏ أي‏:‏ قال من حضر صاحبها‏:‏ من يرقيه ويشتفي برقيته‏؟‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئًا، وبه قال أبو قلابة، ومنه قول الشاعر‏:‏

هل للفتى من بنات الموت من واقي *** أم هل له من حمام الموت من راقي

وقال أبو الجوزاء‏:‏ هو من رقى يرقى إذا صعد، والمعنى‏:‏ من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب‏؟‏ وقيل‏:‏ إنه يقول ذلك ملك الموت، وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها ‏{‏وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق‏}‏ أي‏:‏ وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنه الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد‏.‏ ‏{‏والتفت الساق بالساق‏}‏ أي‏:‏ التفت ساقه بساقه عند نزول الموت به‏.‏ وقال جمهور المفسرين‏:‏ المعنى تتابعت عليه الشدائد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هما ساقاه إذا التفتا في الكفن‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ التفت ساق الكفن بساق الميت‏.‏ وقيل‏:‏ ماتت رجلاه ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوّالاً عليهما‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ اجتمع عليه أمران شديدان‏:‏ الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه‏.‏ وبه قال ابن زيد‏.‏ والعرب لا تذكر الساق إلاّ في الشدائد الكبار والمحن العظام، ومنه قولهم‏:‏ قامت الحرب على ساق‏.‏ وقيل‏:‏ الساق الأوّل تعذيب روحه عند خروج نفسه، والساق الآخر شدّة البعث وما بعده‏.‏ ‏{‏إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المساق‏}‏ أي‏:‏ إلى خالقك يوم القيامة المرجع، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه‏.‏ ‏{‏فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى‏}‏ أي‏:‏ لم يصدّقَ بالرسالة ولا بالقرآن، ولا صلى لربه، والضمير يرجع إلى الإنسان المذكور في أوّل هذه السورة‏.‏ قال قتادة‏:‏ فلا صدّق بكتاب الله ولا صلى لله‏.‏ وقيل‏:‏ فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه‏.‏ قال الكسائي‏:‏ لا بمعنى لم، وكذا قال الأخفش‏:‏ والعرب تقول‏:‏ لا ذهب، أي‏:‏ لم يذهب، وهذا مستفيض في كلام العرب، ومنه‏:‏

إن تغفر اللَّهم تغفر جما *** وأيّ عبد لك لا ألما

‏{‏ولكن كَذَّبَ وتولى‏}‏ أي‏:‏ كذّب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان‏.‏ ‏{‏ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى‏}‏ أي‏:‏ يتبختر ويختال في مشيته افتخاراً بذلك‏.‏

وقيل‏:‏ هو مأخوذ من المطي، وهو الظهر، والمعنى‏:‏ يلوي مطاه‏.‏ وقيل‏:‏ أصله يتمطط، وهو التمدّد والتثاقل، أي‏:‏ يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق ‏{‏أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى‏}‏ أي‏:‏ وليك الويل، وأصله‏:‏ أولاك الله ما تكرهه، واللام مزيدة، كما في ‏{‏رَدِفَ لَكُم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏‏.‏ وهذا تهديد شديد، والتكرير للتأكيد، أي‏:‏ يتكرر عليك ذلك مرة بعد مرة‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل، ثم قال‏:‏ ‏{‏أولى لَكَ فأولى‏}‏ فقال أبو جهل‏:‏ بأيّ شيء تهدّدني، لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقيل معناه‏:‏ الويل لك، ومنه قول الخنساء‏:‏

هممت بنفسي بعض الهمو *** م فأولى لنفسي أولى لها

وعلى القول بأنه الويل‏.‏ قيل‏:‏ هو من المقلوب كأنه قيل‏:‏ أويل لك، ثم أخر الحرف المعتل‏.‏ قيل‏:‏ ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات، والويل لك حياً، والويل لك ميتاً، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إن الذمّ لك أولى لك من تركه‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أنت أولى وأجدر بهذا العذاب، قاله ثعلب‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك‏.‏ قال المبرّد‏:‏ كأنه يقول‏:‏ قد وليت الهلاك وقد دانيته، وأصله من الولي، وهو القرب، وأنشد الفراء‏:‏

فأولى أن يكون لك الولاء *** أي‏:‏ قارب أن يكون لك، وأنشد أيضاً‏:‏

أولى لمن هاجت له أن يكمدا *** ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ أي‏:‏ هملاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يحاسب ولا يعاقب‏.‏ وقال السدي‏:‏ معناه المهمل، ومنه إبل سدى، أي‏:‏ ترعى بلا راع‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبداً لا يبعث، وجملة‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يمنى‏}‏ مستأنفة‏:‏ أي‏:‏ ألم يك ذلك الإنسان قطرة من منيّ يراق في الرحم، وسمي المنيّ منياً لإراقته، والنطفة‏:‏ الماء القليل، يقال نطف الماء إذا قطر‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ألم يك‏}‏ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإنسان‏.‏ وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخاً له‏.‏ وقرأ الجمهور أيضاً‏:‏ ‏{‏تمنى‏}‏ بالفوقية على أن الضمير للنطفة‏.‏ وقرأ حفص، وابن محيصن، ومجاهد، ويعقوب بالتحتية على أن الضمير للمنى، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، واختارها أبو حاتم ‏{‏ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً‏}‏ أي‏:‏ كان بعد النطفة علقة، أي‏:‏ دماً ‏{‏فَخَلَقَ‏}‏ أي‏:‏ فقدّر بأن جعلها مضغة مخلقة ‏{‏فسوى‏}‏، أي‏:‏ فعدّله وكمل نشأته، ونفخ فيه الروح‏.‏ ‏{‏فَجَعَلَ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ حصل من الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ من المنيّ ‏{‏الزوجين‏}‏ أي‏:‏ الصنفين من نوع الإنسان‏.‏ ثم بين ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الذكر والأنثى‏}‏ أي‏:‏ الرجل والمرأة‏.‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ ليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه ‏{‏بِقَادِرٍ على أَن يُحْىِ الموتى‏}‏ أي‏:‏ يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا، فإن الإعادة أهون من الابتداء، وأيسر مؤنة منه‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بقادر‏}‏ وقرأ زيد بن عليّ‏:‏ «يقدر» فعلاً مضارعاً، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يحيي‏}‏ بنصبه بأن‏.‏ وقرأ طلحة بن سليمان، والفياض بن غزوان بسكونها تخفيفاً، أو على إجراء الوصل مجرى الوقف، كما مرّ في مواضع‏.‏

وقد أخرج ابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ‏}‏ قال‏:‏ تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه‏.‏ قيل‏:‏ من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب‏.‏ ‏{‏والتفت الساق بالساق‏}‏ قال‏:‏ التفت عليه الدنيا والآخرة، وملائكة العذاب أيهم يرقى به‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ‏}‏ قل‏:‏ من راق يرقى‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏والتفت الساق بالساق‏}‏ يقول‏:‏ آخر يوم من أيام الدنيا وأوّل يوم من أيام الآخرة، فتلقى الشدّة بالشدّة إلاّ من رحم الله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً ‏{‏يتمطى‏}‏ قال‏:‏ يختال‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏أولى لَكَ فأولى‏}‏ أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل من قبل نفسه، أم أمره الله به‏؟‏ قال‏:‏ بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ قال‏:‏ هملاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن الأنباري عن صالح أبي الخليل قال‏:‏ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى‏}‏ قال‏:‏ «سبحانك اللَّهم، وبلى» وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سبحانك ربي، وبلى» وأخرج ابن النجار في تاريخه عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية‏:‏ «بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين» وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ منكم‏:‏ ‏{‏والتين والزيتون‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 1‏]‏، فانتهى إلى آخرها‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 8‏]‏ فليقل‏:‏ بلى وأنا على ذلك من الشاهدين‏.‏ ومن قرأ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1‏]‏، فانتهى إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى‏}‏ فليقل‏:‏ بلى، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 1‏]‏ فبلغ‏:‏ ‏{‏فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏ فليقل‏:‏ آمنا بالله» وفي إسناده رجل مجهول‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا قرأت ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ فبلغت‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى‏}‏ فقل‏:‏ بلى»‏.‏